سورة الأنعام - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)}
{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ} يعني الذنوب كلها لا يخلو من هذين الوجهين.
واختلفوا فيها فقال قتادة: سرّه وعلانيته، عطاء: قليله وكثيره. ومجاهد: ما ينوي وما هو عامله. الكلبي: ظاهر الإثم الزنا وباطنه المخالة.
السدي: الزواني الذي في الحوانيت وهو بيت أصحاب الرايات وباطنه الصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرّاً. وقال مرّة الهمذاني: كانت العرب تجوز الزنا وكان الشريف إن يزني يستر ذلك وغيره لا يبالي إذا زنا ومتى زنا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك: كان أهل الجاهلية يسترون الزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرّاً، فحرم اللّه تعالى لهذه الأمة السرّ منه والعلانية.
وروى حيان عن الكلبي: ظاهر الإثم طواف الرجال بالنهار عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة.
وقال سعيد بن جبير: الظاهر ما حرم اللّه تعالى بقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 22] وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية والباطن منه الزنا.
وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التعرّي والتجرّد من الثياب في الطواف والباطن الزنا.
{إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ} في الآخرة {بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} بما يكسبون في الآخرة {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} فاقد التسمية ولم يدرك ذكاته أو ذبح لغير اللّه {وَإِنَّهُ} يعني الأكل {لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ} ليوسوسون {إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} من المشركين. وذلك «إن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال: اللّه قتلها. قالوا: فتزعم إن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله اللّه حرام؟ فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية».
وقال عكرمة: معناه ولي الشياطين يعني مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وذلك أن المجوس من أهل فارس لما أنزل اللّه تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانت بينهم مكاتبة إن محمداً وأصحابه يزعمون إنهم يتبعون أمر اللّه ثم يزعمون إن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبحه اللّه فهو حرام ولا يأكلونه، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل اللّه تعالى هذه الآية {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في أكل الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} هو ألف الإستفهام والتقدير دخلت على واو النسق فبقيت على فتحها يعني أومن كان كافراً ميتاً بالضلالة فهديناه واجتبيناه بالإيمان {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} يستضيء به و{يَمْشِي بِهِ فِي الناس} على قصد السبيل ومنهج الطريق.
قال ابن زيد: يعني بهذا النور الإسلام نيابة قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257].
وقال قتادة: هذا المؤمن معه من الله نوراً وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي كتاب الله {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات}.
قال بعضهم: المثل زائد تقديره كمن في الظلمات.
وقال بعضهم: معناه كن أو شبه بشيء كان يشبهه من في الظلمات من ظلمة الكفر والجهل والضلالة والمسير.
{لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} لا يبصر شيئاً ولا يعرف طريقاً كالذي ضل طريقه في ظلمة الليل فهو لا يجد مخرجاً ولا يهتدي طريقاً.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما، ثم اختلفوا فيهما.
فقال ابن عباس: أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس. يريد حمزة بن عبد المطلب كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. أبو جهل، وذلك إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع كعبد مسكين يقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف أبانا.
فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون اللّه، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك ويمان: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل.
قال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل.
{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الكفر والمعصية {وكذلك} أي وكما زيّنا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا.
وقيل: وكما جعلنا فسّاق مكة أكابرها كذلك {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ} يعني عظماء، جمع أكبر مثل أفضل وأحمر وأحامر وأسود وأساود {مُجَرِمِيهَا} إن شئت نصبته على التقديم تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، كما تقول: جعلت زيداً رئيسها وإن شئت خفضته على الإضافة {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ} لأن وبال مكرهم وجزاءه راجع إليهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} إنه كذلك {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} من النبوة، وذلك إن الوليد بن المغيرة قال: واللّه لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال: زاحمنا عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه وأنزل اللّه تعالى {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ} آية حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحت نبوته. {قَالُوا}: يعني أبو جهل. قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} يعني محمداً رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فخص بها محمداً صلى الله عليه وسلم {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} ذل وهوان {عِندَ الله} أي من عند اللّه نصب بنزع حرف الصفة.
قال النحاس: سيصيب الذين أجرموا صغار عند اللّه على التقديم والتأخير {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}.
وقال أبو روق: صَغَار في الدنيا وهذا العذاب في الآخرة.
{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} أي يوسّع عقله أو ينوّره ليقبل الإسلام فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر ما هو؟ قال: «نور يقذفه اللّه تعالى في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح» قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت».
{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} قرأ ابن كثير: ضيقاً بالتخفيف. والباقون: بالتشديد وهي لغتان مثل هين وهيّن، ولين وليّن، حرجاً كسر أهل المدينة، راءه وفتحها الباقون وهما لغتان مثل الأنف والأنف، والفرد والفرد، والوعد والوعد.
وقال سيبويه: الحرج بالفتح المصدر كالصلب والحلب ومعناه ذا حرج، والحرج بالكسر الإسم وهو أشد الضيق، يعني قلبه ضيقاً لا يدخله الإيمان.
وقيل: أثيماً لقول العرب: حرج عليك ضلمي أي ضيق وأثم. وقال السدي: حرجها شاكاً. وقال قتادة: ملتبساً.
وقال النضر بن شميل: ملقاً. وقال ليس للخير فيه منفذ.
وقال عبيد بن عمير. قرأ ابن عباس: هذه الآية، فقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل: نعم، قال: ما الحرج فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المتمسك الذي لا طريق فيه. قال ابن عباس: كذلك قلب الكافر.
وقال أبو الصلت الثقفي وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هذه الآية ضيقاً حرجاً بنصب الراء. وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حرجاً بالكسر. فقال عمر: ابعثوا إلى رجل من كنانة وجعلوه راعياً فأتوه به فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة التي تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء.
فقال عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} يعني يشق عليه الإيمان، ويمتنع ويعجز عنه كما يشق عليه صعود السماء.
واختلف القراء في ذلك، فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وحمزة والكسائي: يصعّد بتشديد الصاد والعين بغير ألف أي يصعد فأدغمت التاء في الصاد.
فاختاره أبو حاتم وأبو عبيد إعتزازاً بقراءة عبد اللّه كأنما يتصعد في السماء.
وقرأ طلحة وعاصم وأبو عبيد والنخعي ومجاهد: بالألف مشدداً بمعنى تصاعد.
وقرأ ابن كيسان وابن {محيصن}، والأعرج وأبو رجاء: يصعد حقيقة.
{كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} قال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه.
ابن زيد: الرجس العذاب مثل الرجز. وقال ابن عباس: هو الشيطان الذي يسلطه عليه.
وقال الكلبي: هو المأثم، وقيل: هو النجس. ويقال: رجس رجاسة ونجس نجاسة.
وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من نجس منجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم».
{وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} أي هذا الذي بيّنا طريق ربّك والذي ارتضاه لنفسه ديناً وجعله مستقيماً لا عوج فيه وهو الإسلام.
وقال ابن مسعود: هو القرآن. وقال: إن الصراط محتضر يحضره الشياطين ينادون: يا عبد اللّه هلم هذا الطريق ليصدوا عن سبيل اللّه فاعتصموا بحبل اللّه وهو كتاب اللّه {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.


{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
{لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ} يعني الجنة في الآخرة.
قال أكثر المفسرين: السلام هو اللّه عز وجل وداره الجنة. وقيل: سميت الجنة دار السلام لسلامتها من الآفات والعاهات.
وقيل: لأن من دخلها سلم من البلايا والرزايا أجمع.
وقيل: لأنها سلمت من دخول أعداء اللّه كيلا ينتغص أولياء الله فيها كما يُنغّص مجاورتهم في الدنيا.
وقيل: سميت بذلك لأن كل حالة من حالات أهلها مقرونة بالسلام فاما إبتداء دخولها فقوله: {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ} وبعد ذلك قوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} الآية [الرعد: 23]. وبعده قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] وبعده قوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً} [مريم: 62] وقوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25-26] وبعده قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] وبعد ذلك {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58]. فلما كان حالات أهل الجنة مقرونة بالسلام إما من الخلق وإما من الحق سمّاها اللّه دار السلام {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} ناصرهم ومعينهم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
قال الحسن بن الفضل: يعني يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء. {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الجن والإنس يجمعهم في يوم القيامة فيقول: {يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس} أي من إضلال الناس وإغوائهم {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس} الذين أطاعوهم {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}.
قال الكلبي: إستمتاع الإنس بالجن. هو أن الرجل إذا سافر أو خرج فمشى بأرض قفر أو أصاب صيداً من صيدهم فخاف على نفسه منهم. فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيثبت جواز منهم، واستمتاع الجن بالإنس هو أن قالوا: قد سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفاً في قومهم وعظماً في قومهم وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس} الآية [الجن: 6]. وقال محمد بن كعب وعبد العزيز بن يحيى: هو طاعة بعضهم بعضاً وموافقة بعضهم بعضاً وقيل: إستمتاع الإنس بالجن بما كانوا يأتون إليهم. من الأراجيف والسحر والكهانة، فاستمتاع الجن بالإنس إغراء الجن الإنس واتباع الإنس إياهم {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} يعني الموت والبعث. قال اللّه تعالى {قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله} يعني قدّر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم.
قال ابن عباس: هذا الإستثناء هو أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه في خلقه لا يولهم جنة ولا ناراً.
وقال الكلبي: إلا ما شاء اللّه وكان ما شاء اللّه أبداً.
وقيل: معناه النار مثواكم خالدين فيها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب وقيل: إلا ما شاء اللّه من إخراج أهل التوحيد من النار.
وقيل: إلا ما شاء اللّه أن يزيدهم من العذاب فيها.
وقيل: إلا ما شاء اللّه من كونهم في الدنيا بغير عذاب.
وقال عطاء: إلا ما شاء اللّه من الحق في عمله أن يؤمن فمنهم من آمن من قبل الفتح ومنهم من آمن من بعد الفتح.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ * وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
روي عن قتادة: يجعل بعضهم أولياء بعض. والمؤمن ولي المؤمن والكافر ولي الكافر حيث كان.
وروى معمر عن قتادة: تبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة.
وقيل: معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس، يعني نَكِلُ بعضهم إلى بعض كقوله: {نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115].
قال ابن زيد: نسلط بعضهم على بعض. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من أعان ظالماً سلّطه اللّه عليه».
وقال مالك بن دينار: قرأت في كتب اللّه المنزلة: إن اللّه تعالى قال: أُفني أعدائي بأعدائي ثم أُفنيهم بأوليائي.
وروى حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: تفسيرها: هو أن اللّه تعالى إذا أراد بقوم خيراً ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم.
وفي الخبر: يقول اللّه: إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا مالك الملوك قلوبهم ونواصيهم فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك ولكن توبوا إلى اللّه تعالى بعطفهم عليكم.
{يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ}.
قال الأعرج وابن أبي إسحاق: تأتكم بالتاء كقوله: {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} [الأعراف: 43].
قرأ الباقون: بالياء كقوله تعالى: {مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} {يَقُصُّونَ} يقرأون {عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} وهو يوم القيامة.
واختلف العلماء في الجن هل أُرسل إليهم رسول أم لا؟ فقال عبيد بن سليمان: سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم مؤمن قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} يعني بذلك رسلاً من الإنس ورسلاً من الجن.
قال الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الجن والإنس جميعاً.
قال مجاهد: الرسل من الإنس. والنذير من الجن ثم قرأ {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29].
قال ابن عباس: هم الذين استمعوا القرآن وأبلغوه قومهم.
وقال أهل المعاني: لم يكن من الجن رسول وإنما الرسل من الإنس خاصة وهذا كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من المالح دون العذب.
وقوله: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وهي أيام العشر وإنما الذبح في يوم واحد من العشر فهو يوم النحر. وقوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وإنما هو في سماء واحدة {قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ} أقروا {على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} أي بشرك من أشرك {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} حتى يبعث إليهم رسلاً ينذرونهم. وقيل: معناه: لم يكن ليهلكهم دون البينة والتذكير بالرسل والآيات فيكون قد ظلمهم {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} يعني بالثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا منهم من هو أشد عذاباً ومنهم من هو أجزل ثواباً {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.


{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}
{وَرَبُّكَ الغني} بعلمه {ذُو الرحمة} بهم {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} ثم يميتكم ويهلككم {وَيَسْتَخْلِفْ} يخلق {مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ} خلقاً غيركم أمثل وأطوع منكم.
وقال عطاء: يريد الصحابة والتابعين {كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} قرناً بعد قرن، وقال مقاتل: يعني أهل سفينة نوح. وقرأ زيد بن ثابت: ذرية بكسر الذال مشدّدة.
وقال أبان بن عثمان: ذرية بفتح الذال وكسر الراء خفيفة على قدر فعله، الباقون: بضم الذال مشددة، وهي لغات صحيحة. وقال ثعلب: الذرية بالكسر الأصل، والذرية بالضم الولد {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} لجائي كائن {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين سابقين أي حيث كنتم يدرككم. والإعجاز أن يأتي بالشيء يعجز عنه خصمه ويقصر دونه فيكون قد قهره وجعله عاجزاً عنه {قُلْ} يا محمد لهم {يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ}.
قال ابن عباس: على ناحيتكم. قال ابن زيد: على حيالكم. يمان: على مذاهبكم. عطاء: على حالتكم التي أنتم عليها. مقاتل: على جديلتكم. مجاهد: على وتيرتكم. الكلبي: على منازلكم. وقيل: إعملوا ما أمكنكم.
قرأ السلمي وعاصم: مكاناً لكم على الجمع في كل القرآن.
{إِنَّي عَامِلٌ} يقول إعملوا ما أنتم عاملون فإني عامل ما أمرني ربي، وهذا أمر وعيد وتهديد لا أمر إباحة وإطلاق كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40].
وقال الكلبي: معناه إعملوا ما أمكنكم من أمري فإني عامل في أموركم بإهلاك.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ} قرأ مجاهد وأهل الكوفة: يكون بالياء، الباقون: بالتاء، {لَهُ عَاقِبَةُ الدار} يعني الجنة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يأمن الكافرون.
قال عطاء: لا يبعد. وقال الضحاك: لا يفوز. وقال عكرمة: لا يبقى في الثواب.
{وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً}.
قال المفسرون: كانوا يجعلون للّه من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للصنم أنفق عليه، وما كان للّه أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلون من ذلك كله شيئاً فما سقط مما جعلوا للّه في نصيب الأوثان تركوه. وقالوا: إن اللّه غني عن هذا، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب اللّه التقطوه فردوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير. وكانوا إذا بذروا ما وقع من بذر اللّه في حصة الصنم تركوه، وما وقع من حصّة الصنم في حصّة اللّه تعالى ردوه وان انفجر من سقي ماء جعلوه للشيطان في نصيب اللّه، شدّوه، وإن انفجر من سقي ماء جعلوه للّه في نصيب الشيطان تركوه. فإذا هلك الذي سموا لشركائهم أو أجدب وكثر الذي للّه، قالوا: ليس لآلهتنا بدّ من نفقة فأخذوا الذي للّه وأنفقوا على الهتهم فإذا أجدب الذي للّه وكثر الذي لآلهتهم قالوا: لو شاء اللّه لأزكى الذي له فلا يردون عليه شيئاً مما للآلهة فإذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزوا منه ووفروا ما يجزون لشركائهم وذلك قوله تعالى مما {ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} أي مما خلف من الحرث والأنعام نصيباً، وفيه إضمار واختصار مجازه: وجعلوا للّه نصيباً ولشركائهم نصيباً {فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ}.
يحيى بن رئاب والسلمي والأعمش والكسائي: بالضم.
وقرأ الباقون: بالفتح. وهما لغتان وهوالقول من غير حقيقة.
سمعت الحسين يقول: سمعت العنبري عن أبي العباس الأزهري عن أبي حاتم إنه قال: قال شريح القاضي: إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، والزعم أيضاً في الطمع {وهذا لِشُرَكَآئِنَا} يعني الأوثان {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما كانوا يقضون {وكذلك زَيَّنَ} أي كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين {لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ} {ساء} موضع فرفع والمعنى: ساء الحكم حكمهم {شُرَكَآؤُهُمْ} يعني شياطينهم زيّنوا وحسّنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة.
وقال الكلبي: شركاؤهم سدنة الهتهم هم الذين كانوا يزينوّن للكفار قتل أولادهم. وكان الرجل في الجاهلية يحلف باللّه لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنَّ أحدهم كما حلف عبد المطلب على إبنه عبد اللّه.
وقرأ أهل الشام: {زُيِّنَ} بالضم، {قَتْلَ}: رفع، {أَوْلادُهُمْ} نصب، {شُرَكَآئهِمْ} بالخفض على التقديم، كأنه قال: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. ففرّقوا بين الفعل وفاعله.
يقول الشاعر:
يمر على ما يستمر وقد شقت *** غلائل غير نفس صدورها
يريد شقت.
عبد القيس: غلايل صدورها.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: زين بضم الزاي قتلُ رفعاً، أولادِهم خفضاً، شركاؤهم رفعاً على التوضيم والتكرير.
كأنه لما قال: زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم. تم الكلام. ثم قال: من زيّنه؟ فقال: شركاؤهم أي زيّنه شركاؤهم فارتفع الشركاء بفعل ضمير دلّ عليه زُين، كما تقول: أكل اللحم زيد: كأنه قيل: من الآكل فتقول زيد.
قال الشاعر:
ليبك لزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح
فزيد مفعول مستقل بنفسه غير مسمّى فاعله، ثم بيّن فقال: ضارع.
أي ليبكيه ضارع، وقوله تعالى: {لِيُرْدُوهُمْ} ليهلكوهم {وَلِيَلْبِسُواْ} أي ليخلطوا ويشبهوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه {وَلَوْ شَآءَ الله} هداهم ووفقهم وعصمهم عن {مَا فَعَلُوهُ} ذلك من تحريم الأنعام والحرث، وقيل: الأولاد {فَذَرْهُمْ} يا محمد {وَمَا يَفْتَرُونَ} يختلقون على اللّه الكذب فإن اللّه لهم بالمرصاد ولا يخلف الميعاد {وَقَالُواْ} يعني المشركين {هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} يعني ما كانوا جعلوه للّه ولآلهتهم التي قد مضى ذكرها.
وقال مجاهد: يعني بالأنعام، البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والحجر: الحرام. قال اللّه تعالى ويقولون {حِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 22] أي حراماً حرماً.
قال الليث:
حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها *** حجر حرام ألا تلك الدهاريس
وأصله من الحجر وهو المنع والحظر، ومنه: حجر القاضي على المفسد.
وقرأ الحسن وقتادة: وحرث حجر بضم الحاء وهما لغتان. وقرأ أُبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير وأبي طلحة والأعمش: وحرث حرج بكسر الحاء والراء قبل الجيم وهي لغة أيضاً مثل جذب وجبذ.
وأنشد أبو عمرو:
ألم تقتلوا الحرجين إذ أعرضا لكم *** يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
{لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} يعنون الرجال دون النساء {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} يعني الحامي إذا ركب ولد ولده. قالوا: حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا}.
قال مجاهد: كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها ولا في شيء من شأنها لا أن ركبوا ولا أن حلبوا ولا أن نتجوا ولا أن باعوا ولا أن حملوا.
وقال أبو عاصم: قال لي أبو وائل: أتدري ما أنعامٌ حرمت ظهورها؟ قلت: لا. قال: لا يحجّون عليها.
وقال الضحاك: هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم ولا يذكرون إسم اللّه عليها {افترآء عَلَيْهِ} يعني إنهم كانوا يفعلون ذلك ويزعمون إن اللّه أمرهم به {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا}.
قال ابن عباس والشعبي وقتادة: يعني ألبان النحائر كانت للذكور دون النساء فإذا ماتت اشترك في لحمها ذكورهم وإناثهم.
وقال السدي: يعني أخذ النحائر ما ولد منها أُخذ خالص للرجل دون النساء وأما ما ولد ميت فيأكله الرجال والنساء، ودخل الهاء في {خالصة} على التأكيد والمبالغة، كما فعل ذلك بالراوية والنسابة والعلامة.
قال الفراء: أُهلت الهاء لتأنيث الأنعام، لأن مافي بطنها مثلها، فأنث لتأنيثها قال: وقد يكون الخالصة كالعاقبة ومنه قوله: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46]، وقرأ عبد الله والأعمش: خالص لذكورنا بغير الهاء ردّاً إلى ما، وقرأ ابن عبّاس: خالصة بالإضافة ويخلص والخالصة والخليصة والخلصان واحد. قال الشاعر:
كنت أميني وكنت خالصتي *** وليس كل امرئ بمؤتمن
{وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} يعني النساء {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} قرأ أهل المدينة: تكن بالتاء، ميتةٌ بالرفع على معنى: وإن تقع الأنعام ميتة، وقرأ أهل مكّة: يكن بالياء، ميتة بالرفع على معنى: وإن يقع ما في بطون الأنعام ميتةً، وقرأ الأعمش: تكن بالتاء، ميتة نصباً على معنى: وإن يكن ما في بطون الأنعام ميتة وقرأ الباقون: يكن بالياء، ميتة بالنصب، ردّوه إلى ما يؤيّد ذلك قوله: {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} ولم يقل: فيها. {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي بوصفهم وعلى وصفهم الكذب على الله كقوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} [النحل: 62] والوصف والصفة واحد كالوزن والزنة والوعد والعدة، {إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً} الآية نزلت في ربيعة ومضر وفي العرب الذين يدفنون بناتهم أحياء مخافة السبي والفقر، إلاّ ما كان من بني كنانة فإنّهم كانوا لا يفعلون ذلك.
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وأهل مكّة والشام: قتّلوا، مشدداً على التكثير والباقون بالتخفيف {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افتراءً على الله حين قالوا: إنّ الله أمرهم بها {قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ * وَهُوَ الذي أَنشَأَ} اخترع وابتدع {جَنَّاتٍ} بساتين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8